ملاحظات هامة حول العودة الجاذبة للخرطوم بقلم العقيد شرطة مهيد الشيخ التاج

ملاحظات هامة حول العودة الجاذبة للخرطوم
لو أجرينا مسحا سريعا جدا لبعض أحياء منطقة بحري و منطقة الخرطوم لكي نقدر عدد السكان الموجودين فيها الان خلال هذه الحرب..وبدأنا من الكدرو و الدروشاب والحلفايا وشمبات الحله وامتداد شمبات و الصافية والصافية شمال والمغتربين والمزاد والدناقله والشعبية وحلة خوجلي وحلة حمد و الصبابي والختمية والأملاك وكافوري وكوبر..لوجدنا أن نسبة السكان الموجودين حاليا لا تكاد أن تتجاوز نسبة ١٠٪ من جملة السكان رغم ان البعض من هذه الأحياء تعد مهجورة تماما.. اما
لو إنتقلنا لمنطقة الخرطوم وبدأنا من منطقة البراري وامتداد ناصر وحي الصفا والمنشية وقاردن سيتي ومرورا بشارع الستين والفردوس و المعمورة (بإستثناء الجريف غرب) ومن ثم منطقة المجاهدين الإمتداد و الصحافات وجبره والعشرة وحي النزهة ثم جبره الجديدة و القديمة ومنطقة الشجره والعزوزاب واللاماب و الكلاكلات وابو ادم.. سنجد ان النسبة من السكان المتواجدون حاليا تكاد لا تكون أكتر من ١٥٪ من جملة السكان.. مع ملاحظة أيضا أن كثير من الأحياء المزكورة أصبحت خالية ومهجورة تماما.. بإستثناء منطقة أمدرمان وبعض المناطق في شرق النيل والحاج يوسف و التي لم يغادرها أهلها..
أما العمارات ومنطقة الخرطوم 2 و الخرطوم 3 والسجانه والحلة الجديدة والرياض والطائف وأركويت فإن اغلب هذه المناطق خالية ومهجورة الان..
وهنا يدور سؤال محوري.. أين ذهب هؤلاء السكان؟ وحتما فإن الإجابة معلومة.. إن السكان إما أن غادروا إلي خارج السودان أو نزحوا داخليا إلي ولايات أخرى.. ولكل فئة من هاتين الفئتين معاناتهم الخاصة بهم الآن..ولكنهم حتما سيعودون يوما من الأيام..
إذا ماهي عوامل العودة والرجوع للخرطوم مرة أخرى؟..
اول هذه العوامل هو نهاية الحرب وتوقف القتال.. وهذا الأمر ربما لا يحدث في القريب العاجل.. فهذه الحرب ليست عباءة لبستها الخرطوم وحين تقلعها نعتبر أن الأمر قد إنتهى.. حيث أن لهذه الحرب آثار قريبة المدى وأخرى متوسطة المدى وأخرى بعيدة المدى.. لكن يمكننا القول أن أهم ما يجعل العودة جاذبة هما عاملين أساسيين.. هما توفر الأمن و توفر الخدمات..
وهنا يثور سؤال مهم جدا : لماذا يود سكان الخرطوم العودة إليها مرة أخرى؟بالتأكيد الإجابة على هذا السؤال تكون هي : العودة إلي بلدهم وبيوتهم وممارسة حياتهم الطبيعية..وهنا نلفت الإنتباه قليلا.. هل يمكن للناس أن بتخيلوا حجم الدمار الذي لحق بالبنية التحتية لولاية الخرطوم والتي من خلالها يمكن أن تقدم منها الخرطوم الخدمات مرة أخرى لهؤلاء السكان؟
طبعا الإجابة هي لا.. فبغض النظر عن خدمات المياه
والكهرباء وخلافه.. دعونا نلقي نظرة على المستشفيات والتي خرجت عن الخدمة كم هو عددها؟ وكم عدد المستشفيات التي دمرت أو لحق بها الضرر وماهو حجم هذه الأضرار؟
وننتقل لنلقي نظرة على الاسواق.. ونبدأ بجولة من السوق المركزي شمبات وسوق بحري وسعد قشرة والسوق العربي وسوق الجمعة والسوق الشعبي وكتير من غيرها.. للأسف نجدها كلها قد إنتهت انتهت.. والأمر الأهم من كل هذا.. هل بمكن لهؤلاء السكان أن يتخيلوا شكل بيوتهم ومنازلهم التي يودون العودة إليها مرة أخرى؟ الاثاثات مسروقة وبيوت مدمره و حتى بعض البيوت لم بتبقى فيها ابواب ولا حتى شبابيك.. وعليه ربما لا يجد بعض الناس ما يجلسون أو ينامون عليه.. نقطة أخرى مهمة.. دعونا نلقي نظرة سريعة على القطاع التعليمي من رياض الأطفال وحتى الجامعات.. بالتأكيد الصوره واضحة.. ولو نظرنا لقطاع العمل.. وبدأنا بالقطاع الخاص.. الشركات و المصانع منهوبة ومدمرة.. ما تبقى منها خرج به بعض أصحابها إلي خارج ولاية الخرطوم.. وفئة أخرى نقلت نشغطها إلي خارج السودان مثل مجموعة شركات حجار وآخرون غيرهم قد سلكوا ذلك الطريق.
أما لو نظرنا للقطاع الحكومي.. فإنه من المحتمل جدا أن هذه المؤسسات قد لا تستطيع أن تستوعب موظفيها مرة أخرى.. وذلك لسببين الاول : الضرر الذي لحق بالمؤسسات ومبانيها ذاتها.. والسبب التاني: نطاق العمل او محل العمل نفسه.. مع ملاحطة أن بعض البنوك قد منحت موظفيها إجازة بدون مرتب..
وأمر آخر في غاية الأهمية.. لو نظرنا لوسائل الحركة .. سننجد أن حتى شبكة المواصلات العامة لم تسلم من هذا التدمير.. العربات الخاصة سرقت كما سرقت الامجاد والهايصات والركشات أيضا..
إذا ماهو الحل؟
الحل الأمثل هو الهجرة و العودة إلي الولايات..
وتحاول بقدر الامكان أن ننسى الخرطوم بقدر الإمكان أن نستنبط أفكارا لأعمال مختلفة نستطيع ان نعيش منها و ان نرفع من مستوى الولايات نفسها وخاصة بعض الولايات الغنية بالموارد مواد تشغيل الحركة الصناعية بالإضافة للزراعة العمود والتي تعتتبر العمود الفقري للإقتصاد ..
موضوع التعثرات الأمنية في بيئة ما بعد الحرب.. أي ما يعرف بالسيولة الأمنية المرتقبة هو أمر وارد و محتمل جدا.. ولعل أبرز أسبابها يتمثل في غياب سلطان الدولة ومؤسساتها المعنية بالأمر لفترة طويلة.. الشيئ الذي يصعب عليها مسألة إستقراء الواقع على الأرض و إستصحاب متغيرات لم تكن أصلا في الحسبان.. لا سيما وأن كل خطط الطوارئ وعلى جميع المستويات لم تتعدى الحريق والسيول والعصيان المدني عند تحديد وتفنيد المخاطر.. ولكنها لم تشمل الحرب بأي شكل من الأشكال.. ولعل ذلك أصبح واضحا الان في عدم توفر خطط تشغيل بديلة على مستوى العديد من القطاعات.. ولكن قطاع الأمن و التأمين والسلامة والخدمات العامة هو أهم قطاع وأهم مرتكز للإستقرار و التعمير و التنمية في فترة مابعد الحرب.. و من خلال إعدادي لورقة عمل كنت قد وصلت لحقائق وتوقعات راجحة ومحتملة وكلها مرتبطة بالحديث عن ماذا يجعل عودة الأهالي لمنازلهم جاذبة..
الا أن أهم مؤثر على مستوى الجريمة قبل أن نفترض أنها ستكون مسلحة هو الوضع الإقتصادي والبطالة الناتجة عنه مع إنعدام توفر فرص العمل.. وبكل تأكيد ستكون هناك صراعات حول موارد محدودة وضعيفة.. نسأل الله تعالى أن يجنبنا سوء هذه الظروف.. ليس الظروف الإقتصادية و الصراع حول الموارد الضئيلة و المحدودة ففط.. بل يضاف الي ذلك الضغوط والاثار النفسية والاجتماعبة للحرب – Psycho Social والمعاناة التي ظلت تلازم الشعب منذ بدايات الحرب الأولى ومعاناة اللجوء والنزوح و التشرد.. وهذا قطعا سيؤثر على نفسيات الأشخاص مما يجعل سلوكهم مختلفا عن ما كان عليه من قبل الحرب.. ولقد ذهب علماء النفس كثير في هذا الأمر عن طريق دراسات و أبحاث حول متغيرات السلوك الشخصي في فترة مابعد الحرب.. ووجدوا أن الإنعكاسات النفسية السالبة للحرب وتأثيرها على السلوك يكون إطارها العام الرغبة في الإنتقام اللاشعوري والذي تندرج تحته كثير من التفاصيل والتي لا أود الخوض فيها الان ولكن سنعود اليها لاحقا بإذن الله تعالى..
و لا شك توجد حلول لهذه المشكلة.. ولكن هذه الحلول ستكون على المدى البعيد.. وبالنظر لواقعنا في السودان نجد أن فرص حل المشكلة معقدة جدا.. لأن موضوعات الامن والسلامة مرتبطة ببعض الجوانب المجتمعبة.. لذلك برزت الحوجة لإستصحاب الدور الأمثل للمواطن ..
لكن هذا لا يلغي دور المؤسسات العامة للدولة.. بل يكون دور المواطن هو إنفاذ خطط وبرامج الدولة الرامية لتوفير الحلول والتقيد بها.. لكن للأسف واقعنا اليوم يشير لضرورة إستعادة الثقة في مؤسسات الدولة ذات نفسها وخاصة المؤسسة الأمنية والتي يدور لغطا كثيرا حولها الان.. ولعل الكل قد لاحظ ذلك..وحتى بعد توقف الحرب.. الموضوع ستتحول الحرب لمشكلات أمنية تحتاج مجهود أمني جبار جدا.. والعمل على تقليل العوامل الإقتصادية المفضية لإرتكاب الجريمة.. بخلاف ما توصلت إليه من نتائج خلال ورقة العمل التي أشرت إليها سابقا وكانت عن أثر إنتشار الأسلحة الصغيرة والخفيفة على أنماط الجريمة بولاية الخرطوم بعد الحرب..
واعتقد أن إنتشار السلاح بعد الحرب ظاهرة طبيعية في أي بلد..
لذلك يكون خيار العودة للولايات هو الخيار الأمثل ولاشك في ذلك.. لكن لابد لهذه الولايات أن تكون أكثر إستعدادا وأكثر جاهزية لإستيعاب الهجرة القادمة إليها من الخرطوم.. و أول متطلبات هذه الجاهزية هي مسألة الأمن والسلامة لأن الأمن هو ركيزة التنمية الأساسية.. ولا ننسى ذلك الكم الهائل من نزلاء السجون الذين فروا منها خلال هذه الحرب.. فحتما ستكون وجهتهم هذه الولايات لكي يتجنبوا فرص تضييق الرقابة المحتملة عليهم بولاية الخرطوم.. وستكون ولايات الجزيرة- كسلا- البحر الأحمر – شمال كردفان- نهر النيل هي الأكثر جذبا لهذه الهجرة العكسية المحتملة والمرتقبة..ايضا لابد من الإلتفات لبعض الجرائم والتي ربما تزيد وتنتشر في الولايات بسبب حركة هجرة السكان إليها مثل الإتجار في المخدرات والمؤثرات العقلية والسرقات و الإحتيال و كثير من غيرها.. ( مدني_ بورتسودانكسلا- الابيض عطبره)..
وهكذت نكون قد تطرقنا للموضوع من النواحي الأمنيه والجنائية والإجتماعية .. لكن دعوني أضيف بعد آخر :
معلوم ومن خلال الكثير من التجارب التاريخية وحتي الدولية المعاصره بأن فترات ما بعد الحرب هي الأصعب والأقسي لإعتبارات الآثار الإقتصادية والإجتماعية الأمنيه والنفسية التي تخلفها الحروبَ..
لاسيما و أن حرب المدن بالتأكيد يكتوى بٱثارها المدنيين في المقام الأول..
مع ملاحظة أنه قبل إندلاع الحرب ومنذ سنوات أو عقود ظلت مشكلة التنمية المتوازنة هي أحد العقبات الكؤود امام الإنطلاقة والتقدم الإقتصادي للبلاد.. حيث يتكدس ثلث سكان السودان في الخرطوم إما في وظائف حكومية ديوانية أو أعمال هامشية طفيلية لا تخدم الإقتصاد الكلي ويتركون الولايات حيث الإنتاج والموارد الإقتصادية الحقيقية والتي إذا ما أستغلت لساهمت في دفع عجلة الإقتصاد ..
أيضا أغلب الذين غادروا الخرطوم بعد الحرب لن يعودوا إليها قريبا.. لأن مجموعة منهم كانت فد غادرت مغادرة مودع بلا عودة.. حيث أخلوا منازلهم لا سيما المستأجرين وتخلصوا من اثاثاتهم وخرجوا بما خف وزنه وغلى سعره.. وفئه أخرى غادرت ووطنت نفسها في ولايات إستقرارها حيث قارنوا بين ما كانوا يكابدون في الخرطوم والعائد الضئيل وما وجدوه من سعه وراحة بال في الولايات.. وفئه ثالثة وهؤلاء يحتاجون لسنوات وسنوات لنسيان ومحو الآثار النفسية من عقولهم وعقول أطفالهم لما كابدوه وشاهدوه من الفظائع التي لا يستطيعون منها فكاكا في القريب وهؤلاء وطنوا أنفسهم علي الإستقرار في الولايات التي هاجروا إليها.. َوفي تقديرى أن أفصل فضل مكاسب هذه الحرب أنها خلصت أهل الوسط من فزاعة الهامش والإبتزاز الذي يظل يمارسه البعض وهي قلة لا تتناسب مع صوتها العالي والتي تسندها بكل أسف آلياتنا الإعلامية بلا وعي.. بجانب المنظمات الدولية ذات الأجنده التي تخدم قوى معينة لتحقيق أهداف بعيدة المدي.. وهو ما ظهر الان في الحزام الذي طوق الخرطوم بمدنها الثلاث وظهر الان كخلايا نائمة ساندت التمرد وعاثت فسادا في بيوت من أحسنوا إليهم بالأمس..
وهي حقا معضلة تحتاج إلي قرارات حاسمج من الأجهزه الأمنيه بلا إلتفات إلي الأصوات المخزلة بإعتبارها قضية تهدد الأمن القومي للبلاد في عمق عاصمتها ..
أما بخصوص ما يتصل بالأجهزة الأمنيه فإنها جميعها تحتاج في مرحلة ما بعد الحرب إلي جهد كبير في أسس الإختيار والمناهج التدريببة و التسغيلية المتبعة وأساليب وبرامج العمل ونظم الإنتشار والتوزيع..
أما عن ضرورة إستعداد الولايات من الناحية الأمنية والتأمينية لتلك الهجرة العكسية المرتقبة من الخرطوم (المركز) للولايات بعد إنتهاء الحرب بإذن الله تعالى كما أشرنا .. فإنه عادة ما تستصحب هذه الهجرات معها العديد من العوامل السالبة والتي ربما تؤدي لإذدياد نسب الجريمة في الولايات المقصوده.. وخاصة جرائم:-
السرقات.
الإحتيال.
النهب.
التزوير.
الإتجار في المخدرات.
العنف بأنواعه المختلفة.
الإتجار غير المشروع في الأسلحة.
جرائم المعلوماتية..
وكثير من غيرها..
حيث يشكل الواقع الإقتصادي الجديد إفرازات سالبة مجملها الحوجة والعطالة عن العمل.. حيث يسهم ذلك بشكل فعال على الجريمة ومعدلات حدوثها..
هذا بالإضافة لجرائم الإزعاج العام ومخالفات الاداب..
فلو لم يتوفر ذلك المستوى من الأمن والأمان فلن تكون هناك أي تنمية أو إستثمارات مهما كان حجمها أو مستواها..
وهنا سيظل العبئ الماثل أمام الشرطة السودانية عموما آخذ في التضخم.. الشيئ الذي يستوجب تجهبز العدة والعتاد.. ولعل أبرز المطلوبات اعدادا لمرحلة ما بعد الحرب هو العنصر البشري المؤهل والقادر على إنفاذ القانون بكل كفاية وكفاءة وإقتدار ملتزما بالتطبيق الأمثل والفاعل للقانون بحسم دون أي محاباة أَو مجاملة أو تراخي.. ثانيا لابد من تهيئة المواطن للمشاركة والتشارك مع الشرطة بفعالية لأنه الشريك الأصيل في محاربة الجريمة وفق مفاهيم الشرطة المجتمعية.. وطالما أن الحديث هنا عن إنفاذ قانون لابد من أن يكون مثلث العدالة مكتملا ومكملا (شرطة /نيابة/قضاء).. وتظل هذه الحلقات متماسكة متعاونة مكملة لادوارها بالشراكة والفعالية والجودة المطلوبة..
نواصل
عقيد شرطة (م) مهيد الشيخ التاج
UNCIVPOL REGIONAL TRAINER – EAST AFRICA REGION